الجمعة، 6 فبراير 2009

عشق قروي (4)

خرج من المقبرة متأملاً ألاّ يطول بعثها من جديد ، ضل صامتاً طوال الطريق وكأن به صمم ، يداعب مخيلته طيف من ودعها لتوهـ ابتسامتها ضحكتها حركاتها لم تفارقه ، لم يزح هذا الطيف إلاّ توقف السيارة عند عائلته المنتظرة في مكانها .


نزل الاب من السيارة وفضّل هو البقاء مكانه فكان يحس بهزال وان رجلاه لا تقويان على حمله ، جمعت العائلة حاجياتها وصعدوا بها للسيارة وعادوا من حيث أتوا من ذلك المنزل الذي تراءى له حينها انه زنزانة كئيبة خلت من مناظر البهجة والسرور يساق إليها بعد فسحة قصيرة في باحة السجن .


مرت تلك الليله عليه كما تمر ليلة عبوس على مغترب أضناه البعد عمن ألفه واحبّه وتكسرت في يديه مجاديف وصالهم ، في كل يوم تشرق فيه الشمس من بعد ليلته تلك يتظاهر بالسلوان عنها في نهاره ويتجرع آهات وعذابات ذكراها في مسائه .


يا لهذا الطفل عاش مالم يعشه اقرانه ، القى العشق بظلاله على كاهله النحيل باكراً لم يدع له فرصة ليعيش طفولة طبيعية كغيره ، لم يستمتع بملذات الطفولة إلاً ما شاركته فيه ، يقضي أيامه بدونها صائماً عن كل مبهج مفرح ولا يفطر إلا حين يرى وجهها .


توالت الاشهر وجاء شهر الصوم عن الملذات التي لا تعنيه حينها، وهو يترقب فطره فيه ....فطره بعودتها إليه كما وعدت ، وفي احد ايام رمضان دوى مدفع الافطار بالنسبة له ولكن في غير موعد افطار فقد رن هاتف منزلهم واذا بخاله الكبير يهاتف امه ويدعوها لحضور إفطار عائلي يوم غد على شرف ابو جنى وعائلته القادمين من السفر .


اخفت الام الخبر حتى اجتمع الكل على مائدة الافطار ثم زفته لهم ، وهاهي والفرحة ترى ولأول مرة على وجه ذاك الطفل منذ ان سافرت جنى ، كفرحة غريق برؤية منقذه ، لم يستطع الكلام من فرط سعادته واستعاض بذلك باكل كل ما وقعت عينه عليه في المائدة بالرغم من عدم صومه عن الاكل لصغر سنه .


صعد لغرفته التي شاركته الفرحه هي الاخرى فكلاهما مرا بحزن اضفى عليهما صمت مطبق خلال الاشهر الماضية ترآءى له ان كل شيء في الغرفة يبتسم ، الستارة ، الخزانة ، وحتى الحيطان ...اصبح يحدث وسادته ويقول لها ...عاااااااااادت .......عاااااااااادت ولسان حالها يقول: اخيراً سيعود للنوم عليّ ذلك الوجه السعيد.


اخذ في ليلته يعد السيناريو ليوم غد ويرتب في ذهنه ما سيقوله ، فحضّر الكثير والكثير من عبارات الاشتياق ، اسند رأسه الى وسادته واطرق ينظر لسقف غرفته المزين بنجوم فسفورية تضيء عند الظلام وما لبث ان غط في نوم هانيء .


رقيق هو الخيط الذي يربط بين احلام اليقظة واحلام النوم وكانت كلها في ليلته هذه سعيدة جداً ما أن تفارقه جنى في يقظته حتى يراها مجددا في نومه .

عند الساعة العاشرة صباحا كان فالح اول المستيقظين من النوم بحكم عادة السهر المتأصله في شعبنا في ليالي رمضان والطاغية على عائلته ، نزل للحديقة وقام يسقى الزرع الذي تعوّد على اسقائه دوماً ، كانت شجرة التين الصغيرة هي المستاثرة دوماً بعنياته خاصةً انه هو من غرسها ، وعندما انتهى من سقياه للزرع سمع صوت الباب المؤدي للحديقة يفتح واذا بأمه تطل بأبتسامةٍ جميلة تعودها منها دائماً قائلةً: ما شاء الله ما هذا النشاط لقد سبقتنا واستيقظت ألهذا الاستيقاظ مسبب ، فأخذ يبرر لها استياقظه بانه نام باكراً ،ولكن تبريره لم ينطلي على ذكاء امه التي تدرك السبب جيداً .


عقارب الساعة تمشي ببطيء شديد وكلّما انقضت دقيقة من نهاره إزداد فرحاً وحبوراً ، ويا للشبه الكبير بين دقات الساعة ودقات القلوب المنتظرة لموعد اللقاء.


الساعة الرابعة عصراً والتجهيز للذهاب لبيت الخال على قدم وساق ، الام تجهز ما سوف تاخذه بيدها لهم ، والبنات انزلوا ما في خزائن ملابسهم من ملابس والحيرة تحاصرهم أيلبسون هذا ام ذاك ، والابناء تتعالي اصواتهم أحدهم يبحث عن شماغه الجديد ...والآخر يوبخ الخادمة لعدم كيّها ثوبه جيداً ، أما فالح فكان محلقاً خارج السرب ، كان كطالب يسترجع ما ذاكره بليله أمام بوابة قاعة اختبار... لم يكن يهتم بلبسه بقدر اهتمامه بما سيقوله لجنى .


حان موعد مغادرة المنزل وركب الجميع وتوجهوا لبيت الخال ، توقفت سيارتهم امام بابه وتسارع الابناء بالنزول، منهم من انهكه الصيام عن الاكل والشرب وهناك من انهكه الصيام عمن احب .


استقبلهم الخال عند الباب استقبالاً حاراً مشيراً لهم بأن اذآن المغرب حل ودعاهم للدخول والانضمام لمن سبقهم في الداخل ، دخل الجميع وسلموا على خالهم والد جنى وبقية اخوالهم والضيوف وبدأوا في الافطار الذي لا يتعدى حبات تمر وقهوة عندما اعتلى اذآن المغرب ، توجه الجميع للمسجد وعند خروجهم من باب المنزل تأخر فالح متعمدأً لرغبته بأن يبدأ فطره برؤية من انتظر اشهراً ....وكان له ذلك .. (الحلقة القادمة)


ليست هناك تعليقات: